كان الشهيد يوسف أحمد ريحان قبها "أبو جندل"، يدرك جيدا أن نتيجة قراره الرافض لتوسلات عدد من النسوة في مخيم جنين، خلع زيه العسكري والتنكر بثياب امرأة، ستكون إعدامه برصاص قوات الاحتلال، بعد أن قاد معركة المقاومة في المخيم حتى نفاذ ما كان بحوزته من ذخيرة وطعام وماء .ــ
وأقسم أبو جندل "37عاما" من بلدة يعبد، على الاستشهاد في سبيل الله ودفاعا عن المخيم بوجه قوات الاحتلال الإسرائيلي التي شنت هجوما عسكريا واسعا عليه، فجر الثالث من نيسان الماضي، وخلفت من ورائها آلاف المشردين ممن هدمت منازلهم، ودمارا هائلا في سائر مرافق البنية التحتية .ــ
في أواخر العام 81، يقول ناهد الشقيق الأصغر للشهيد أبو جندل، أن شقيقه يوسف قرر السفر إلى الأراضي الأردنية ومنها إلى السورية وبعدها إلى لبنان على أمل الالتحاق بصفوف قوات الثورة الفلسطينية .ــ
ولم تمض سوى عدة شهور على التحاق أبو جندل بصفوف الثورة، حتى تسلم قيادة مجموعة "أطفال الآر.بي.جي" في مخيم الرشيدية خلال الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية في العام 82 .ــ
وخلال ذلك الاجتياح يقول شقيقه أن أبو جندل، نفذ هجوما نوعيا ضد أهداف إسرائيلية، برفقة مجموعة مكونة من ثمانية أشبال، استشهد سبعة منهم، بينما أصيب هو بجراح خطيرة، وعثرت عليه قوة من الكتائب المسيحية اللبنانية التي نقلته بدورها إلى أحد المستشفيات اللبنانية حيث جرى احتجازه، إلا أنه جرى تهريبه إلى سوريا بمساعدة فتاة فلسطينية كانت تعمل في بعثة منظمة الصليب الأحمر الدولي .ــ
واستقر أبو جندل في سوريا لفترة قصيرة، انتقل بعدها إلى العراق حيث انضم إلى قوات "عين جالوت"، وتولى قيادة معسكر للتدريب، لينطلق بعدئذ إلى الأردن مرة أخرى حيث اعتقل لمدة ثمانية شهور، تزوج بعدها من فتاة من أقاربه، عاد بها في العام 94 إلى أرض الوطن .ــ
وفي فلسطين كانت أريحا المحطة الأولى للشهيد أبو جندل الذي شغل فيها موقع مدرب لمجموعات قوات الأمن الوطني، ومن ثم انتقل إلى بيت لحم حيث تسلم قيادة القوة التنفيذية لتلك القوات، حتى انتقل إلى مدينة جنين بعد اتهامه من قبل إسرائيل بقتل أحد جنودها وإصابة آخرين خلال اشتباك مسلح في محيط "قبة راحيل" .ــ
وطلبت إسرائيل من السلطة الوطنية تسليمها أبو جندل بذريعة قتل الجندي وإصابة آخرين، إلا أن السلطة رفضت الطلب الإسرائيلي، وجرى نقله إلى جنين التي اتهمته سلطات الاحتلال فيها بإصابة مسؤول الارتباط العسكري الإسرائيلي فيها بمقتل، خلال اشتباكات مسلحة بين قوات الأمن الفلسطيني وقوات الاحتلال، في العام 96 .ــ
وشغل أبو جندل عدة مهام في صفوف قوات الأمن الوطني، حتى بدأت قوات الاحتلال، تحشد المئات من الآليات الثقيلة، على مشارف المخيم، تمهيدا لاجتياحه في الثالث من الشهر الماضي، حيث قرر أبو جندل برفقة مجموعة "الأهوال" التي قادها التوجه إلى المخيم الذي انضم إليه فيه العشرات من المقاتلين ممن وضعوا أنفسهم تحت إمرته .ــ
في الليلة التي سبقت الهجوم الإسرائيلي، قام أبو جندل برفقة عدد من أبرز المقاومين من بينهم الشهيدين محمود طوالبة القيادي البارز في "سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، وزياد العامر قائد كتائب "شهداء الأقصى" الذراع العسكري لحركة فتح، بتوزيع المقاومين على شكل مجموعات وخطوط دفاعية لمواجهة الغزو الإسرائيلي .ــ
يقول أحد الجنود ممن كانوا تحت إمرة أبو جندل في معركة مخيم جنين، "كان أبو جندل يتمتع بمعنويات عالية، فقد أقسم على الاستشهاد في سبيل الله ودفاعا عن المخيم، ولم يكن يتعامل معنا كجنود تحت إمرته، وإنما كأصدقاء له ".ــ
ويضيف الجندي الذي يفضل عدم ذكر اسمه "لم يكن هناك مكان محدد يمكن أن يتواجد فيه أبو جندل، وإنما كان يحرص على تفقد مجموعات المقاومين في سائر المواقع داخل المخيم، ليحثهم على الاستبسال في مقاومة الاحتلال حتى النصر أو الشهادة ".ــ
ووضع أبو جندل في اليوم الذي سبق الغزو الإسرائيلي، خطة تمكن المقاومين من مواجهة قوات الاحتلال، ومنعها من دخول المخيم، وذلك من خلال تعمده توزيع المجموعات بأعداد قليلة من المقاومين، على شكل كمائن على مشارف المخيم، بما يمكنهم من إيقاع أكبر عدد ممكن من الخسائر في صفوف القوات الغازية .ــ
وعندما بدأت قوات الاحتلال في ساعات الفجر الأولى من الثالث من الشهر الماضي، بالتقدم نحو المخيم تحت وابل كثيف من النيران، أعطى أبو جندل تعليماته للمقاومين بعدم مغادرة مواقعهم، مهما كلفهم الأمر، والاعتماد على نظام شن الهجمات السريعة التي تلحق أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف قوات الاحتلال .ــ
وكانت المنطقة الغربية من المخيم أولى نقاط الاحتكاك والمواجهة مع قوات الاحتلال، حيث كان أبو جندل على رأس عدد من المقاومين ممن تمكنوا في اليوم الثاني من الغزو من قتل وإصابة عدد من الجنود ممن اقتحموا أحد المنازل في تلك المنطقة، وفوجئوا بمحاصرتهم من كافة الجهات من قبل المقاومين .ــ
في ذلك اليوم وذات المنطقة، يروي أحد رفاق أبو جندل في السلاح، فيقول "أصيب أحد المقاتلين وهو طارق دراوشة من مخيم الفارعة برصاص متفجر أطلقه قناص إسرائيلي، وكان على بعد 100 متر من أبو جندل الذي كان شديد التأثر عليه، فقرر الانتقام له من قاتليه عبر شن هجمات مركزة على المنزل الذي كان هؤلاء يتحصنون بداخله، قبل أن تبدأ المروحيات القتالية بقصف محيط المنزل بالصواريخ ".ــ
وعاود أبو جندل مرة أخرى بمشاركة المئات من المقاومين، الخروج على مدار ليالي الأيام الستة الأولى من الهجوم الإسرائيلي، على التواجد في أزقة المخيم على شكل مجموعات تطلق في آن واحد صيحات "الله أكبر"، وذلك بهدف التخفيف عن المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ ممن كانوا يتواجدون داخل منازلهم التي كانت هدفا للقصف والتجريف .ــ
ولا يزال ذلك الرفيق الذي اكتفى بالتعريف على نفسه باسم "وائل" يتذكر تلك اللحظات القاسية التي كانت فيها الدبابات والمروحيات الإسرائيلية تقصف حيي "الدمج"و" الحواشين" بالقذائف والصواريخ، بينما كانت البلدوزرات تهدم المنازل وتتقدم باتجاه منازل كان يتحصن بداخلها نحو 100 مقاتل .ــ
ويضيف وائل "في تلك اللحظات خرج أبو جندل من بيننا وبيده قذيفة (آر.بي.جي) واحدة، قرر إطلاقها ليس باتجاه إحدى الدبابات، وإنما باتجاه جرافة عسكرية كانت تهدم المنازل من حولنا، فأصابها بشكل مباشر، ما أدى إلى احتراق أجزاء منها وتراجع الدبابات والجرافات، وبالتالي توقف مؤقت لعمليات التجريف، وإنقاذ حياة المقاتلين المائة ممن كانوا على إدراك أن الجرافات لن تكف عن أعمال التجريف حتى تهدم المنازل على رؤوسهم ".ــ
ويتابع وهو يمسح الدموع عن وجنتيه "كان مبدأ أبو جندل يرتكز على (أن الهجوم خير وسيلة للدفاع)، وكان يحرص على مهاجمة كل منزل يحتله جنود الاحتلال والاستيلاء عليه بهدف توسيع رقعة المقاومة، وكان يتمتع بمهارة عسكرية عالية أهلته لأن يكون قائدا ميدانيا فذا".ــ
يقول وائل "في اليوم السابع من الهجوم الإسرائيلي، حضر إلينا أبو جندل، وأعطانا الأوامر بشن هجمات واسعة على جميع المواقع العسكرية الإسرائيلية في المنطقة الشرقية من المخيم، وغادر عند الثانية بعد الظهر، حيث كان ذلك اللقاء الأخير ".ــ
وفي اليوم العاشر من الهجوم الإسرائيلي، حيث نفذت الذخيرة من المقاتلين كما نفذ الطعام والماء، توجهت بعض النسوة من المخيم إلى الشهيد أبو جندل برجاء أن يخلع زيه العسكري، ويتنكر بثياب امرأة تمكنه من الخروج بسلام من المخيم، والنجاة من جنود الاحتلال .ــ
إلا أن أبو جندل كان يرفض بشدة تلك التوسلات، ويبدي اعتزازه بزيه العسكري الذي أصر على عدم خلعه رغم أنه كان بإمكانه فعل ذلك، حتى أصيب واعتقلته قوات الاحتلال التي وضعته وسط المخيم، وأعدمته رميا بالرصاص شأنه في ذلك شأن العشرات من المواطنين ممن أعدمتهم قوات الاحتلال بعد إصابتهم
وقد رثاه الشاعر لطفي الياسيني
بقصيدة
ابا جندل يا قصيدة فتح
تقال فيخضر منها المداد
فانت الشهيد وانت الاكيد
بجنات خلد حبيب العباد
جنين على العهد بعدك انت
امير القوافي ورمز الجهاد
حبيب الملايين انت الامام
تقيم الصلاة بكل اجتهاد
رحلت ومازلت فينا حريصا
على الاعتكاف لنيل المراد
فاهلك بعدك عند العهود
وشعبك خلفك ابن الجياد
فدتك فلسطين ابنا سخيا
فقد كنت لي قدوة في المراد
سنبقى على العهد عهد الصقور
الى ان نزيل جدار الجراد
فديتك روحي فانت العزيز
وانت السفير لرب العباد
فمليون مرحى لروحك انت
عشقت الشهادة ابن السداد
لروحك مني سلام الصقور
الى ان اجاور يوم المعاد